بات معبر بيت حانون الذي تسميه سلطات الاحتلال "الإسرائيلي"، "حاجز إيرز"، مصيدة للفلسطينيين الراغبين في العلاج بالمستشفيات "الإسرائيلية" أو الفلسطينية في الضفة المحتلة والقدس المحتلة، إذ أضحى المعبر المفتوح فقط للحالات الإنسانية وسيلة للإيقاع بغزيين واعتقالهم.
ويقع المعبر أقصى شمال قطاع غزة، ويربط القطاع بالأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1948، وهو ممر إجباري لكل من يرغب في السفر من غزة إلى إسرائيل أو الضفة المحتلة، ويسمح فقط لحالات إنسانية وبتصريح مسبق بالمرور عبره.
ويقول مسؤولون وحقوقيون إن المعبر بات وسيلة تستخدمها السلطات الإسرائيلية لاعتقال الفلسطينيين بعد الموافقة على إعطائهم تصاريح مرور عبره، إضافة إلى أنه أصبح مكاناً لإجبار غزيين على التعامل مع "إسرائيل" استخبارياً.
وعلى هذا المعبر لم تفلح كافة المحاولات التي قامت بها المريضة حكمت بكير مشتهى (52 عاماً)، بحماية زوجها المرافق لها ماهر عبد الفتاح مشتهى (53 عاماً)، من الاعتقال على معبر بيت حانون (إيرز) شمال قطاع غزة.
واعتقلت قوات الاحتلال المواطن ماهر مشتهى في 5 كانون ثاني/ يناير عام 2016، أثناء عبوره برفقة زوجته المريضة للعلاج في "جمعية المقاصد الخيرية" في مدينة القدس.
وقالت مشتهى" للرأي": "نتيجة لإغلاق معبر رفح حصلت على تحويلة للعلاج في الداخل"، لافتًا إلى أن سلطات الاحتلال احتجزت زوجها واطلعت على أوراقه الثبوتية وصادرت "جواله" وجوالي".
وهذا، فادي القطشان (28عاماً) غادر قطاع غزة ليجري عملية حرجة بقلبه في إحدى مستشفيات الاحتلال، تم خلالها وضع جهاز لضخ الدم، نجحت العملية وعاد فادي للقطاع على أن يعود للمراجعة الطبية، وحاول الحصول على تصريح لذلك، لكن دون فائدة، إلى أن شعر بألم قوي في قلبه وتوفي.
الناظر لموت فادي يعتقد أن قصته تبدو كغيرها من قصص المرضى الذين يموتون بفعل الحصار على المعابر، ولكن عندما تتبعنا حكايته تبين لنا أن ضابطاً يعمل في مخابرات الاحتلال كان قد اتصل على فادي بعدما رفض إعطائه تصريح المراجعة ليبتزه للعمل لصالحهم.
وعن حيثيات المكالمة التي جرت بين فادي وضابط المخابرات، يقول والد فادي (60 عاماً)، ونبرة الحزن تعلو محياة، إن الضابط قال لابني "نعرف أن هناك جهاز في قلبك قد ينفجر في أي لحظة لذلك لن نعطيك تصريح إلا إذا تعاونت معنا".
وتقطن عائلة الحاج على القطشان (اسم والد فادي) بمخيم النصيرات للاجئين الفلسطينيين وسط قطاع غزة.
وأضاف الحاج علي: "ابني أصيب بمرض خطير في شريان القلب اسمه تاكاياسو Takayasu) (، مبيناً أنه تم تحويله إلى عدة مستشفيات في القدس ومدن الضفة المحتلة حتى تم اجراء العملية له بمشفى يسمى (تل هاشومير)".
وتابع والد فادي من على كرسيه المتحرك، "أُجريت له عملية ناجحة وبقي في الضفة لمدة خمسة أشهر، ليعود إلى غزة بصحة أفضل وفي قلبه جهاز لضخ الدم، على أن يعود للمراجعة الطبية بعد شهرين، ولكن حال بينه وبينها رفض الاحتلال إعطاءه تصريحًا للدخول للسبب السابق".
وأثناء حديث "الرأي" مع الحاج علي دخلت شقيقة فادي الصغرى "حنين" فتقول: "ضابط المخابرات خير فادي بين التعاون معه وتقديم معلومات لإسرائيل عن المقاومة الفلسطينية مقابل تسهيل سفره وتقديم العلاج له، وبين الموت في غزة، فاختار فادي الخيار الثاني دون تردد".
والغريب في الموضوع، كما تقول حنين ابنة الاثنان والعشرون ربيعاً، "ضابط المخابرات كان يعرف وضعنا الاقتصادي السيئ جيداً ويعرف حالة فادي الصحية ويتحدث العربية بشكل جيد جداً".
وتابعت بأن ضابط المخابرات أخبر شقيقها بأن رقمه يظهر على الشاشة ويستطيع الاتصال به في أي وقت، وإلا لن يحصل على التصريح، إلا أن فادي أغلق هاتفه على الفور، ومسح الرقم الضابط تماماً.
يموت أمامها ببطء
وبروح الأمومة قالت زانة (والدة فادي) إنها كانت تشاهد ابنها يموت أمامها ببطء على أن يتعاون مع المخابرات الاسرائيلية، خاصة وأنه تقدم للحصول على تصريح دخول لإسرائيل ثلاث مرات أخرى لكن دون جدوى.
وتضيف زانة (55 عاماً) للرأي"عرفنا أن الضابط المخابرات نفذ تهديده، وأيقن ابني أنه لن يسافر أبداً ليراجع عمليته وكان من الصعب على أي مستشفى محلية أن تتابع حالته بسبب خطورتها".
وكانت عائلة الحاج على القطشان تأمل بأن يخرجها فادي من فقرها المدقع خاصة وأنه الوحيد بين أبنائها الذي أنهى تعليمه الجامعي، كما تقول والدته.
وهنا درفت دموع والدته وقالت وبحشرجة في صوتها "يوم وفاة فادي كان عائد من مدينة غزة في رحلة بحثه عن فرصة عمل، وشعر بوخز شديد في القلب وقال لنا يبدو أن الجهاز يضعف ومن ثم تقيأ وارجع رأسه قليلاً للخلف وتوفي لحظتها في 16/11/2013".
ولم تكن عائلة الحاج علي قطيشان، تعلم أن رحلة علاج ابنها الأكبر فادي، في المستشفيات الإسرائيلية، ستكون سبباً في فقدانه.
الطفلة خلود ووالدها
وفي حادثة مشابه، اضطر أطباء غزة إلى نقل طفلة صغيرة مع أمها إلى مستشفيات الاحتلال الإسرائيلي بعد سوء حالتها وعدم وجود الإمكانات لمعالجتها في القطاع المحاصر، وبالفعل سافرت الوالدة وطفلتها "خلود" إلى أحد المستشفيات الإسرائيلية.
تلقّت خلود، كما قالت والدتها، علاجاً كيماوياً في عدة جلسات متتابعة، وقبل أن تتماثل للشفاء من السرطان الذي أصابها، طلب ضابط من الاستخبارات الإسرائيلية في معبر بيت حانون/إيرز، حضور والدها للمقابلة.
تخوف والد خلود من الأمر، فالأب له نشاط سياسي، ويعرف أنه إذا وصل إلى المعبر فسيعتقل ويُقتاد إلى السجن، وأصر الوالد على عدم الذهاب إلى المقابلة، وأصرت الاستخبارات الإسرائيلية على حرمان الطفلة من استكمال علاجها.
ولكن خلود تمتلك حظاً أفضل من فادي حيث تمكن والدها من استخراج تحويلة طبية إلى جمهورية مصر العربية، التي استقبلت الحالة الحرجة لخلود، حتى تغلبت على مرضها.
السجن بدل المشفى
وهناك مرضى نقلتهم المخابرات من معبر "ايرز" إلى السجن مباشرة، كما حدث مع حالة المريض إياد دواس (42عاماً).
ويقول شقيقه أشرف (36عاماً) "أصيب شقيقي بسرطان في عظم قدمه، وخرج من غزة ليتلقى العلاج في مستشفى "المقاصد" بالقدس بتاريخ 24/11/2011، ودخل عند المخابرات الاسرائيلية التحقيق معه في معبر ايرز، ومنذ تلك اللحظة وهو خلف القضبان في سجن ريمون العسكري".
ولفت إلى أنهم يتحدثون مع إياد كل شهر تقريباً، وقد أخبرهم أن الاحتلال لم يعرضه على أي طبيب، وأنه صحته تسوء يوماً بعد يوم، مشيراً إلى أن شقيقه الأسير لديه تسعة أبناء وقد استطاع محاميه تخفيض حكمه من 15 عاماً إلى خمسة سنوات.
وعن هذا، قالت المتحدثة باسم جمعية أطباء لحقوق الإنسان الإسرائيلية "مكسيت بندل"، إن "جهاز الشباك" الإسرائيلي زاد من عمليات استجواب المرضى على الحواجز وخاصة على حاجز بيت حانون شمال قطاع غزة.
وأضافت "بندل"، أن محققي الشباك رفضوا السماح لطفل فلسطيني يبلغ من العمر 15 عاماً بالسفر للعلاج في إسرائيل لإجراء عملية جراحية مستعجلة في بطنه، بعد أن رفض الأخير الإدلاء بمعلومات تتعلق بعدد من أقاربه وجيرانه أثناء استجوابه من قبل المحققين في حاجز بيت حانون شمال غزة.
انتهاكات مستمرة
من ناحيتها، قالت وزارة الصحة إن المرضى الفلسطينيين يتعرضون لانتهاكات على كافة المعابر، موضحةً أن إجراءات قوات الاحتلال وممارساتها على المعابر تعرقل وتمنع وصول الحالات المرضية الحرجة إلى المستشفيات الإسرائيلية.
وأشارت إلى أن الاحتلال يخضع المرضى الفلسطينيين للاستجواب في المعابر ويؤخر وصولهم إلى المستشفيات ويمنع عدداً منهم من السفر لتلقي العلاج رغم حصولهم على تصريحات خاصة من الجانب الإسرائيلي تسمح لهم بالمرور للعلاج في إسرائيل.
كما نبهت من خطورة استجواب وإعاقة المرضى على المعابر الحدودية، مشيرةً إلى أن الوزارة تضطر في كثير من الأحيان إلى نقل بعض الحالات المرضية المعقدة ومرضى السرطان التي لا تتوفر الإمكانيات العلاجية لها في المستشفيات الفلسطينية إلى "إسرائيل".
ونوهت الوزارة إلى أن أسلوب استجواب المرضي ليس أسلوباً جديداً، بل هو أسلوب قديم استخدمه الاحتلال طوال السنوات الفائتة.
وبحسب مركز المعلومات التابع لوزارة الصحة الفلسطينية، استشهد خلال السنوات الماضية أكثر من 140 من المرضى الفلسطينيين نتيجة إعاقة الاحتلال وصولهم إلى المستشفيات الإسرائيلية أو الفلسطينية لدى مرورهم عبر الحواجز والمعابر الإسرائيلية.
انتهاكات منظمة
من جانبه، وصف مدير مركز "الميزان" الحقوقي، عصام يونس، معبر "بيت حانون - إيرز" الواقع شمال قطاع غزة بـ "المصيدة"، مشيراً إلى أنه "بات يشكل خطراً كبيراً على حياة المواطنين الفلسطينيين"؛ حيث يتم اعتقال بعضهم أثناء محاولتهم اجتيازه.
وأفاد يونس " للرأي"، بأن قوت الاحتلال تواصل انتهاكاتها "المنظمة" بحق أهالي قطاع غزة "دون أي اكتراث بتدهور الأوضاع الإنسانية فيه جرّاء تواصل الحصار الشامل عليه منذ ما يزيد عن ثماني سنوات".
وقال "هذا الأمر لا يدع مجالاً للشك بأن سلطات الاحتلال ترتكب انتهاكات منظمة، مستغلة المعبر كمصيدة للإيقاع بالفلسطينيين واعتقالهم أو ابتزازهم".
ووصف اعتقالات الاحتلال وإجراءاته التي يمنع بموجبها المرضى من السفر للعلاج عن طريق معبر "بيت حانون" بـ "التعسفية"، مشيراً إلى أن قوات الاحتلال اعتقلت 44 مواطناً فلسطينياً، بينهم أربعة مرضى و30 تاجراً وعشرة آخرين من المعبر نفسه خلال العام المنصرم 2016.
وأوضح مدير مركز "الميزان" الحقوقي، أن ما تقوم به سلطات الاحتلال "يأتي في سياق الانتهاكات الجسيمة والمنظمة" لقواعد القانون الدولي الإنساني.
وطالب المجتمع الدولي بالوفاء بالتزاماته، بموجب القانون الدولي، والضغط على الاحتلال وإلزامه باحترام القانون، ورفع الحصار المفروض على قطاع غزة وضمان حرية حركة وتنقل الأفراد والبضائع.
ظاهرة آخذة بالزيادة
من ناحيته، يعلّق عميد أكاديمية فلسطين للعلوم الأمنية كمال تربان، بأن ظاهرة اعتقال وابتزاز المرضى على المعابر الاحتلال آخذة في الزيادة في الأسابيع القليلة الماضية، يستغل فيها الاحتلال حاجة المريض لاجتياز المعبر فيساومه ويبتزه.
ويضيف "ما يقع مع المرضى يأتي في جو يكون فيه كل أهل المريض يعيشون حالة ضغط نفسي، وهنا تبدأ مخابرات الاحتلال في تحديد وحصر كل الدوائر المتضررة ويمارسون ضغطاً على أحد الأهداف من أقارب الدرجة الأولى أو المريض نفسه".
ويشير إلى أن "الاحتلال يساوم المريض على الارتباط، وإذا رفض يحوله للتحقيق ويلفق له تهمة ويحاكمه وأحياناً إذا قبل المريض يحوله لمحكمة ويدخله السجن ليخفي القضية ويبدأ بالعمل معه فيسقط ضحية".
بدوره، أكد الناطق باسم وزارة الداخلية والأمن الوطني إياد البزم " للرأي"، أن معبر بيت حانون "بوابة لإذلال" المواطن الفلسطيني الذي يُجبر على المرور به للعلاج، خصوصاً في ظل عدم وجود بدائل.
وبيّن البزم، أن وزارة الداخلية في غزة تقوم بعملية متابعة للمواطنين قبل التوجه لمعبر "ايرز"، وتقدم لهم النصح، لتفادي الوقوع في مصيدة الاحتلال الإسرائيلي، مشيراً إلى أنهم يأخذون إفادات من المرضى الذين يشكون تعرضهم للابتزاز.