"اليوم استنشقتُ الهواء ورأيتُ الشمس، وقد أتعوّد على ذلك مع الأيام المقبلة"، هذا أول ما نطق به الأسير المحرر "كريم يونس" بعد أربعين عاماً من الغياب في زنازين الأسر، أقدم الأسرى الذين شهدوا تغيّر الوجوه وتوالي الحريات لمئات الآلاف من رفقاء الأسر على مدار إقامته داخل أقبية سجون الاحتلال.
ولأن الأعوام تمر والوقت لا ينتظر أحدًا مرت سنوات أسره في سجون الاحتلال الإسرائيلي، واقترب حلم والدته باحتضان نجلها، تسعة أشهر كانت تفصلها عن احتضانه على عتبات الحقيقة، ولكن القدر كان مسرعاً نحوها في إنهاء نبضات قلبها قبل ارتوائها برؤيته حراً، وكان قبرها أول أماكن الحرية التي احتضنت المحرر يونس.
آخر هواء تنفسه الأسير كريم يونس بلا حوائل كان في السادس من شهر كانون الثاني عام 1983، أربعين عاماً قطعها الأسير تحت الأرض مقيداً تاريخ اليوم فجراً وقد حرره الاحتلال في بقعة خالية من البشر، لإفشال مراسم استقباله بحفاوة.
هذا كريم يونس الذي لم يذكر اسمه في أي صفقة لتبادل الأسرى، سمع عن اتفاقيات كثيرة تمت بعيدا عنه، منذ أوسلو، خرج كثيرون وهو وحده أكمل ساعات اعتقاله حتى الدقيقة الأخيرة من العمر، فخرج اليوم وهو ابن الثانية والستين.
أربعون عاماً كانت كفيلة بتغير العالم من حول الأسرى جميعا، ومن حول أقدم الأسرى على وجه الخصوص، خمسة حروب مرت على قطاع غزة ومئات التصعيدات الحربية، وارتقاء مئات الآلاف من الشهداء في الضفة وغزة، حتى اتفاقيات السلام كان غائباً عنها يونس وتسميم الرئيس ياسر عرفات.
حتى الانتقالات التكنولوجية لم يشهدها يونس، اختراع الهواتف النقالة والذكية وأجيالها المتعاقبة، ومئات الأجهزة الإلكترونية الحديثة لا يعرف شكلها وطبيعة وظيفتها وطريقة التعامل معها، وهو يحتاج إلى وقت كبير لاستيعاب حياته الجديدة.
في المقابل جيش عائلي متكامل ينتظر احتضان الأسير كريم يونس، الأحفاد الصغار أصبحوا شباباً يافعين فتحوا أذرعهم لاحتضان خالهم وعمهم، منهم من تزوّج وأنجب، وكلهم التحقوا بالجامعات وتخرجوا منها وتوظفوا بشهاداتهم الجامعية، وهذا اللقاء العابر سيكون واحداً من جملة التعارف التي سيتكفل الزمن وحده بتعريف المحرر بأفراد عائلته التي أصبحت ممتدة.
كلمات يونس الأولى قال فيها "تركت 4500 أسير موحدين في وجه الآتي"، مضيفاً "خرجت من السجن لأنشد نشيد بلادي وأواصل طريق الحرية، قد تكون حريتي بادرة لحرية الأسرى، فأنا ابن فلسطين وأتمنى زيارة الضفة وغزة وكل المحافظات".
الليلة الأخيرة
وفي محاكاة مشهد الليلة الأخيرة لكريم يونس في أقبية السجون كتب الأسير المحرر عصمت منصور، "كانت أطول وأصعب ليلة تمر على كريم يونس، عاش فيها رهبة أن يكون حرًا وأن يقوم بأشياء لأول مرة، بعد أربعة عقود: كأن يمشي بلا قيود في قدميه، ولا سجان يرافقه مثل ظله، وأن يفتح الباب من داخل الغرفة، أو أن يجلس على كرسي سيارة جلدي بجانب السائق، وأن يطفئ نور الغرفة ويطل من شباك بلا ألواح وسياج، ويقرر متى يأكل وأين ينام، أن يعتاد أن يكون هو، هو كما يريد".
وأكمل المحرر منصور قوله:" يونس عاش أيضا رهبة ألا يكون مع رفاقه الأسرى، ونغصت عليه شبهة التخلي وتركهم وحدهم، وأن يكون محاطا بأشخاص يحبهم ويحبونه لكنه لا يعرفهم حقًا ولم يتعرف عليهم إلا كونهم أسماء وصور وفكرة هو كونها عنهم، فكرة وصورة تشبه واقعه أكثر مما تشبههم".
بهذه المناسبة قال كيل وزارة شؤون الأسرى والمحررين بهاء المدهون أن قضية الأسرى وخاصة الأسرى القدامى تحتاج مزيدًا من الالتفاف حولها، تكثيف الجهود الرسمية والفصائلية والشعبية، لتحريرهم وكسر قيدهم، ونؤكد أن المسؤولية في هذا السياق تقع على عاتق الكل الفلسطيني.
وهنأت وزارة الأسرى القائد كريم يونس وعائلته بالإفراج عنه من سجون الاحتلال بعد أربعة عقود قضاها صامدًا شامخًا مدافعًا عن الحق الفلسطيني في الأرض والوجود، ومسجلًا تاريخًا ناصعًا في سجل مواجهة الاحتلال، مشيرة إلى أن الأسرى في سجون الاحتلال يجب ألا يقضون المدة التي قضاها الأسير كريم يونس.