ما أن يبدأ الليل بممارسة دوره في إحلال الظلام الدامس فوق سماء قطاع غزة، حتى تعلن الحرب الجنونية فوق المنطقة التي تآمرت عليها الطائرات الحربية "الإسرائيلية" ليلاً على وجه الخصوص، ونذرت نفسها لأن تكون نذير شؤم وموت في آن اللحظة على كل آمن استقر داخل بيته.
واختار الآمنون بيوتهم على أساس أنها المكان الأكثر أمناً وسط أجواء الحرب المخيفة، لكنها مع سياسة الاحتلال الوحشية لم تكن كذلك مطلقاً، وقد وضعها في مقدمة أهدافه المرصودة ضمن بنك الأهداف الأمنية بتهمة "الإرهاب".
ففي ليلة الخامس عشر من شهر مايو _ليلة أمس_، اليوم الذي يصادف الذكرى الثالثة والسبعون لنكبة تهجير الفلسطينيين من أراضيهم عام48، تسببت الطائرات الحربية "الإسرائيلية" فوق سماء قطاع غزة بافتعال نكبة جديدة لا تقل كارثيتها عن النكبة الأولى.
في ذات الليلة وبعد تجاوز الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، دون سابق إنذار أو تحذير، أطلقت الطائرات الحربية وابل جنونها من أطنان الصواريخ المتفجرة فوق العمارات السكنية دون تمييز، أضاءت الصواريخ الحربية عتمة الليل الحالك، وحولت خط الأفق في سماء غزة إلى نيران مشتعلة بألسنة لهب تصل مداها إلى أعلى السماء، ومن ثم تتحول إلى أعمدة دخان أسود يتحول على هيئة غيمة ثقيلة لا هواء فيها.
عشرات الطائرات الحربية تظافرت في ذات المنطقة _حي الرمال_ وسط قطاع غزة، وأطلقت عشرات الصواريخ المتفجرة، وسوّت عشرات المباني أرضاً وحولتهم إلى أكوام من الركام.
أما حال المدنيين في الداخل، أو كما أصبحوا تحت ركام منازلهم المدمرة، المنطقة بلا كهرباء منذ خمسة أيام، وأصوات ناجين تخترق فجوات الركام وتنادي: "نحن على قيد الحياة، نحن هنا تحت الدمار".
عائلات بأكملها كانت آمنة نائمة في بيوتها، فهي لا ذنب لها سوى أنها تحيا في أرض فلسطين، وفي قطاع غزة على وجه الخصوص، ذنب خمسة وعشرين طفلاً أخرجوا من تحت الأنقاض أشلاء أنهم بلا ذنب، لذلك كانوا "بنك الأهداف" الذي خصص لاستهدافهم عشرات الصواريخ المتفجرة والمحرمة دولياً.
"مجزرة"، وكلمة مجزرة لا تصف الصورة كما يجب، فقد أوقع الاحتلال أكثر من خمسين شهيداً ومفقوداً في تلك الضربة التي استهدفت جملة من العمارات السكنية وخليطاً كبيراً من دم أكثر من عشر عائلات مدنية آمنة، بحجة "الإرهاب".
أصغرهم رضيعاً
أكثر من اثني عشر فرداً من عائلة الكولك، قضت نحبها ليلة البارحة، وبعضاَ من أفرادها لا زالوا بهوية مجهولة المصير، عمارة سكنية يعيش فيها أفراد عائلة كاملة سكت صوت رضيعها الذي يصغر الشهداء عمراً، فلم يتجاوز العام الواحد من عمره بعد، وأمه التي كانت تلف ذراعيها حول جسده الصغير لتحميه من ويل الضربات رافقته إلى الجنة ومعها خمسة من أبنائها.
الجد والجدة والأب والأعمام والعمات وأبناء العم، كلهم أصبحوا في عداد الشهداء في وقت لم يتجاوز الدقائق من ضرب المنطقة بالصواريخ المحملة بأطنان المتفجرات.
المبنى السكني الذي تضربه الصواريخ دون تحذير، تضرب برفقته كل المباني المحيطة على حد سواء، فكانت عمارة أبو العوف أيضا في مرمى صواريخ طائرات الاحتلال التي لا تميز بين الأهداف المدنية الآمنة وبين العسكرية.
عائلة أبو العوف آوت الأحفاد من جهة ابنتهم من عائلة الافرنجي على سبيلين، الأول لجأ الأحفاد إلى بيت جدهم ليكونوا في مكان أكثر أمناً وأنساً من بيتهم، والثاني على اعتبار معايشة _ولو رمزاً_ أجواء العيد في يومه الثالث.
هذه الليلة كانت دموية على عائلة أبو العوف، فقد اختطفت الصواريخ خمسة من وجوه الأطفال والأحفاد وأمهم، وغيبت أعيادهم وبيت جدهم إلى الأبد، وهم رحلوا أيضاً إلى الأبد، وتركوا أبيهم دون مؤنس في بيته البعيد!.
عائلة ثالثة شاركت أبو العوف وكولك المجزرة وراح ضحيتها العشرات من أطفالها الرضع والصغار والأشبال والأمهات، عائلة "اشكنتنا" مسحت أيضا من صفحات السجل المدني ولكنها أبقت شاهدا وحيداً على المجزرة من الصغار.
حصيلة المجزرة البشعة التي نفذها الاحتلال في ليلة حالكة السواد، راح ضحيتها أكثر من خمسة وأربعين شهيداً وأكثر من خمسين مصاباً، بعد نسف حي بأكمله وتدمير بنيته التحتية دون ذريعة واحدة تبرر بشاعة المجزرة الدموية، فضلا عن أن الحرب على غزة في يومها السادس على التوالي.